منتديات الشام الرسمية

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


    رسائل غسّان كنفاني إلى غادة السمّان

    Abo-Yazan
    Abo-Yazan

    {{ المدير العام }}


    رسائل غسّان كنفاني إلى غادة السمّان Stars13


    الجنس : ذكر
    الابراج : السمك
    الأبراج الصينية : القرد
    عدد المشاركات : 5678
    العمر : 32
    البلد : Beit Awwa
    وسام التقدير : رسائل غسّان كنفاني إلى غادة السمّان Empty
    نقاط : 20353
    السٌّمعَة : 30
    تاريخ التسجيل : 11/08/2007

    بطاقة الشخصية
    your sms:

    رسائل غسّان كنفاني إلى غادة السمّان Empty رسائل غسّان كنفاني إلى غادة السمّان

    مُساهمة من طرف Abo-Yazan الخميس 13 ديسمبر - 9:38


    الرسالة الأولى :

    " رسالة غير مؤرخة – لا أذكر التاريخ !
    لعلها أول رسالة سطرها لي "
    غادة..
    اعرف أن الكثيرين كتبوا لك، وأعرف أن الكلمات المكتوبة تخفي عادة حقيقة الأشياء، خصوصا إذا كانت تعاش وتحس وتنزف على الصورة الكثيفة النادرة التي عشناها في الأسبوعين الماضيين.. ورغم ذلك، فحين أمسكت هذه الورقة لأكتب كنت أعرف أن شيئا واحدا فقط أستطيع أن أقوله وأنا أثق من صدقه وعمق كثافته وربما ملاصقته التي يخيل إلي الآن أنها كانت شيئا محتوما، وستظل، كالأقدار التي صنعتنا: إنني أحبك.

    الآن أحسها عميقة أكثر من أي وقت مضى ، وقبل لحظة واحدة فقط مررت بأقسى ما يمكن لرجل مثلي أن يمر فيه ، وبدت لي تعاستي كلها مجرد معبر مزيف لهذه التعاسة التي ذقتها في لحظة كبريق النصل في اللحم الكفيف .. الآن أحسها ، هذه الكلمة التي وسخوها كما قلت لي والتي شعرت بأن علي أن أبذل كل ما في طاقة الرجل أن يبذل كي لا أوسخها بدوري .
    إنني أحبك: أحسها الآن والألم الذي تكرهينه – ليس أقل ولا أكثر مما أمقته أنا – ينخر كل عظامي ويزحف في مفاصلي مثل دبيب الموت. أحسها الآن والشمس تشرق وراء التلة الجرداء مقابل الستارة التي تقطع أفق شرفتك الى شرائح متطاولة .. أحسها وأنا أتذكر أنني أيضا لم أنم ليلة أمس وأنني فوجئت وأنا أنتظر الشروق على شرفة بيتي أنني – أنا الذي قاومت الدموع ذات يوم وزجرتها حين كنت أجلد – أبكي بمرارة لم أعرفها حتى أيام الجوع الحقيقي ، بملوحة البحار كلها وبغربة كل الموتى الذين لا يستطيعون فعل أيما شيء .. وتساءلت: أكان نشيجا هذا الذي أسمعه أم سلخ السياط وهي تهوي من الداخل.؟
    لا أنت تعرفين أنني رجل لا أنسى، وأنا أعرف منك بالجحيم الذي يطوق حياتي من كل الجوانب، وبالجنة التي لا أستطيع أن أكرهها .. وبالحريق الذي يشتعل في عروقي ، وبالصخرة التي كتب علي أن أجرّها وتجرني إلى حيث لا يدري أحد .. وأنا أعرف منك أيضا بأنها حياتي انا ، وأنها تنسرب من بين أصابعي أنا ، وبأن حبك يستحق أن يعيش الانسان له .. ورغم ذلك فأنا أعرف منك أيضا بأنني أحبك الى حد أستطيع أن أغيب فيه ، بالصورة التي تشائين ، إذا كنت تعتقدين أن هذا الغياب سيجعلك أكثر سعادة ، وبأنه سيغير شيئا من حقيقة الأشياء .

    أهذا ما أردت أن أقوله لك حين أمسكت الورقة ؟ لست أدري .. ولكن صدقيني يا غادة أنني تعذبت خلال الأيام الماضية عذابا أشك في أن احدا يستطيع احتماله ، كنت أجلد من الخارج ومن الداخل دونما رحمة ، وبدت لي حياتي كلها تافهة واستعجالا لا مبرر له ، وأن الله إنما وضعني بالمصادفة في المكان الخطأ لأنه فشل في أن يجعل عذابه الطويل الممض وغير العادل لهذا الجسد ، الذي أحتقر فيه قدرته غير البشريه على الصلابة ، ينحني ويموت ..

    إن قصتنا لا تكتب ، وسأحتقر نفسي لو حاولت ذات يوم أن أفعل ، لقد كان شهرا كالإعصار الذي لا يفهم ، كالمطر كالنار ، كالأرض المحروثة التي اعبدها إلى حد الجنون وكنت فخورا بك إلى حد لمت نفسي ذات ليلة حين قلت بيني وبين ذاتي أنك درعي في وجه الناس والأشياء وضعفي وكنت أعرف في أعماقي أنني لا أستحقك ليس لأنني لا أستطيع أن اعطيك حبات عينيّ ولكن لنني لن أستطيع الاحتفاظ بك الى الابد .
    وكان هذا فقط ما يعذبني .. إنني اعرفك إنسانة رائعة ، وذات عقل لا يصدق وبوسعك أن تعرفي ما أقصد : لا ياغادة لم تكن الغيرة من الآخرين .. كنت أحسك أكبر منهم بما لا يقاس ، ولم أكن أخشى منهم أن ذلك الشيء الوحيد الذي لا أستطيع أبدا إتقانه ولو أتقنته لما كنت الآن في قاع العالم .. لا ياغادة .. لم يكن ذلك الشعور الكئيب الذي لم يكن ليغادرني ، مثل ذبابة أطبق عليها صدري ، بأنك لا محالة ستقولين ذات يوم ما قلتِه الليلة .

    إن الشروق يذهلني ، رغم الستارة التي تحوله الى شرائح وتذكرني بألوف الحواجز التي تجعل من المستقبل – أمامي – مجرد شرائح .. وأشعر بصفاء لا مثيل له مثل صفاء النهاية ورغم ذلك فأنا أريد أن أظل معك، لا أريد أن تغيب عني عيناك اللتان أعطتاني ما عجز ك شيء انتزعته في هذا العالم من إعطائي ، ببساطة لأني أحبك ، وأحبك كثيرا يا غادة ، وسيدمر الكثير مني أن أفقدك ، وانا أعرف أن غبار الأيام سيترسب على الجرح ولكنني أعرف بنفس المقدار أنه سيكون مثل جروح جسدي : تلتهب كلما هب عليها الريح .
    انا لا أريد منك شيئا وحين تتحدثين عن توزيع الانتصارات يتبادر الى ذهني أن كل انتصارات العالم إنما وَزعت من فوق جثث رجال ماتوا في سبيلها .
    انا لا أريد منك شيئا ولا أريد – بنفس المقدار – أبداً أبدا أن أفقدك .
    إن المسافة التي ستسافرينها لن تحجبك عني ، لقد بنينا أشياء كثيرة معا لا يمكن ، بعد ، ان تغيبها المسافات ولا أن تهدمها القطيعة لأنها بنيت على أساس من الصدق لا يتطرق اليه التزعزع .
    ولا أريد أن أفقد " الناس " الذين لا يستحقون أن يكونوا وقود هذا الصدام المرّوع مع الحقائق التي نعيشها .
    ولكن إذا كان هذا ما تريدينه فقولي لي أن أغيب أنا .. ظلي هنا أنت فانا الذي تعودت ان أحمل حقيبتي الصغيرة وأمضي .
    ولكنني هذه المرة سأمضي وانا أعرف أنني أحبك وسأظل أنزف كلما هبت الريح على الاشياء العزيزة !!! بنيناها معا
    . الرسالة -2-

    رسالة غير مؤرخة لكن سياق الكلام فيها يدل على أنها كتبت في القاهرة اواخر تشرين الثاني ( نوفمبر ) وقبل 29-11-1966 بيوم او اثنين .

    عزيزتي غادة ..
    مرهق الى أقصى حد : ولكنك أمامي ، هذه الصورة الرائعة التي تذكرني بأشياء كثيرة عيناك وشفتاك وملامح التحفز التي تعمل في بدني مثلما تعمل ضربة على عظم الساق ، حين يبدأ الألم في التراجع ، سعادة الألم التي لا نظير لها ، أفتقدك يا جهنم ، يا سماء ، يا بحر ، أفتقدك الى حد الجنون ، الى حد أضع صورتك أمام عيني وأنا أحبس نفسي هنا كي أراك .

    ما زلت أنفض عن بذلتي رذاذ الصوف الأصفر الداكن ، وأمس رأيت كرات صغيرة منها على كتفي فتركتها هناك ، لها طعم نادر كالبهار .. انها تبتعث الدموع الى عيني أيتها الشقية . الدموع وأنا أعرف أنني لا أستحقك : فحين أغلقت الباب وتركتني عرفت ، عرفت كثيرا أية سعادة أفتقد إذ لا أكون معك ، لقد تبقت كرات صغيرة من الصوف الأصفر على بذلتي ، تشبثت بي مثلما أنا بك ، وسافرت بها الى هنا مثلما يفعل أي عاشق صغير قادم من الريف لأول مرة .

    لن أنسى ، كلا . فانا ببساطة أقول لك : لم أعرف أحدا في حياتي مثلك ، أبدا ، أبدا ، لم أقترب من أحد كما اقتربت منك أبدا أبدا ولذلك لن أنساك ، لا ... إنك شيء نادر في حياتي ، بدأت معك ويبدو لي أنني سأنتهي معك .

    سأكتب لك أطول وأكثر .. لقد أجلو المؤتمر الى 30 ولكنهم سيسفروننا غدا، الأحد الى غزة كي نشترك بمآتم التقسيم ، يا للهول ..
    ويبدو انه لن يكون بوسعي أن أعود للقاهرة قبل الرابع ، وسأكون في بيروت يوم 6 كانون الأول على أبعد تعديل .. الا اذا فررت من المؤتمر وأتيتك عدوا ..
    حين قرأ أحمد بهاء الدين حديثك لي خطفه * ، بل أجبرني على التعاقد معه لأكتب له مواضيع مماثلة .. قال لي وهو يهز رأسه : أخيرا أيها العفريت وجدت من يسكت شراستك ، سينشر الموضوع في ( المصور) ** التي علمت أنها توزع في كل البلاد العربية أعدادا هائلة وتحوز على ثقة الناس واحترامهم .. ولكنني بالطبع لا أعرف متى ..

    وزعت كتبك *** ، تحدثت عنك كثيرا ، فكرت بك ، بك وحدك .. وأنت لا تصدقين .. وأنت ( حين أعذب نفسي في المساء ) موجودة في الماي فير **** مع الناس والهواتف والضحك ..

    حاولي أن تكتبي لي : فندق سكرابيه شارع 26 يوليو ، القاهرة ، فسيكون أحلى ما يمكن أن يلقاني حين عودتي رسالة منك لأنني أعرف أنك لن تأتين ..

    اه يا عزيزة
    الرسالة رقم -3- ..

    كازينو الأندلس – غزة ******* فندق الأندلس – غزة

    فندق قصر البحر – غزة ****** كازينو هويدي – غزة


    غزة في 29-11-1966

    غادة ..
    كل هذه العناوين المسجلة فوق، على ضخامتها ليست إلا أربع طاولات على شاطئ البحر الحزين، وأنا، وأنت، في هذه القارورة من العزلة والضجر. إنه الصباح، وليلة أمس لم أنم فقد كان الصداع يتسلق الوسادة كجيوش مهزومة من النمل، وعلى مائدة الفطور تساءلت: هل صحيح أنهم كلهم تافهون أم أن غيابك فقط هو الذي يجعلهم هكذا ؟ ثم جئنا جميعا إلى هنا: أسماء كبيرة وصغيرة، ولكنني تركت مقعدي بينهم وجئت أكتب في ناحية، ومن مكاني أستطيع أن أرى مقعدي الفارغ في مكانه المناسب، موجودا بينهم أكثر مما كنت أنا.

    إنني معروف هنا، وأكاد أقول " محبوب "، أكثر مما كنت أتوقع، أكثر بكثير، وهذا شيء، في العادة، يذلني، لأنني أعرف بأنه لن يتاح لي الوقت لأكون عند حسن ظن الناس ، وأنني في كل الحالات سأعجز في أن أكون مثلما يتوقعون مني . طول النهار والليل أستقبلُ الناس، وفي الدكاكين يكاد الباعة يعطونني ما أريد مجاناً وفي كل مكان أذهب إليه أستقبل بحرارة تزيد شعوري ببرودة أطرافي ورأسي وقصر رحلتي إلى هؤلاء الناس وإلى نفسي.إنني أشعر أكثر من أي وقت مضى أن كل قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق وتافه لغياب السلاح وأنها تنحدر الآن أمام شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون كل يوم في سبيل شيء أحترمه، وذلك كله يشعرني بغربة تشبه الموت وبسعادة المحتضر بعد طول إيمان وعذاب، ولكن أيضا بذل من طراز صاعق.

    ولكنني متأكد من شيء واحد على الأقل، هو قيمتك عندي.. أنا لم أفقد صوابي بك بعد، ولذلك فأنا الذي أعرف كم أنت أذكى، وأنبل وأجمل. لقد كنت في بدني طوال الوقت، في شفتي، في عيني، وفي رأسي، كنتِ عذابي وشوقي والشيء الرائع الذي يتذكره الإنسان كي يعيش ويعود.. إن لي قدرة لم أعرف مثلها في حياتي على تصورك ورؤيتك.. وحين أرى منظرا أو أسمع كلمة وأعلق عليها بيني وبين نفسي أسمع جوابك في أذني، كأنك واقفة إلى جواري ويدك في يدي، أحيانا أسمعك تضحكين، وأحيانا أسمعك ترفضين رأيي وأحيانا تسبقينني إلى التعليق، وأنظر إلى عيون الواقفين أمامي لأرى إن كانوا قد لمحوكِ معي، أتعاون معك على مواجهة كل شيء وأضع معك نصل الصدق الجارح على رقابهم، إنني أحبك أيتها الشقية كما لم أعرف الحب في حياتي، ولست أذكر في حياتي سعادة توازي تلك التي غسلتني من غبار وصدأ ثلاثين سنة ليلة تركت بيروت هنا.

    أرجوك.. دعيني معك. دعيني أراك . إنك تعنين بالنسبة لي أكثر بكثير مما أعني لك وأنا أعرف ولكن ما العمل ؟ إنني أعرف أن العالم ضدنا معاً ولكنني أعرف أنه ضدنا بصورة متساوية، فلماذا لا نقف معا في وجهه ؟ كفّي عن تعذيبي فلا أنا ولا أنت نستحق أن نسحق على هذه الصورة. أما أنا أذلني الهروب بما فيه الكفاية ولست أريد ولا أقبل الهروب بعد، سأظل، ولو وُضع أطلس الكون على كتفي، وراءك ومعك. ولن يستطيع شيء في العالم أن يجعلني أفقدك فقد فقدت قبلك، وسأفقد بعد، كل شيء.

    " إنني لا أستطيع أن أكرهك ولذلك فأنا أطلب حبك " (*).. أعطيك العالم إن أعطيتني منه قبولك بي.. فأنا أيتها الشقية، أعرف أنني أحبك وأعرف أنني إذا فقدتك فقد أثمن ما لديّ، والى الأبد..

    سأكتب لك وأنا أعرف أنني قد أصل قبل رسالتي القادمة، فسأغادر القاهرة يوم 5 كانون وتأكدي: لا شيء يشوقني غيرك.



    --
    (*) هذه العبارة استشهاد لغسان من إحدى رسائله الوجدانية لي المنشورة في زاوية " أوراق خاصة " في جريدة المحرر، وغير المنشورة بعد في " الأعمال الكاملة لغسان كنفاني ". وكان غسان يحمل مسودات رسائله إلي التي ينشرها وذلك بعد أن تقوم المطبعة بصفها، وقد احتفظت بتذكارات منها بخطه، لكنني لم أنشرها في هذا الكتاب، إذ من المفروض أن تصدر في مجلد خاص بها في " الأعمال الكاملة لغسان كنفاني " ما دام قد اختار أن ينشرها بنفسه في الصحف خلال حياته. غادة السمّان

      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد 22 سبتمبر - 15:16